هجوم المعارضة السورية- إعادة رسم النفوذ وتحديات التحالفات الإقليمية

أعلنت فصائل المعارضة السورية المسلّحة، في يوم الأربعاء الموافق 27 تشرين الثاني/نوفمبر، عن إطلاق عملية عسكرية واسعة النطاق تستهدف مواقع قوات النظام، وذلك عبر بيان رسمي نُشر على قناتها في تطبيق "تليغرام". ووصفت الفصائل هذه العملية بأنها "ردع للعدوان"، مبررةً ذلك بأنه يأتي كرد فعل طبيعي على القصف المدفعي المتواصل الذي تشنّه حكومة دمشق.
وذكرت فصائل المعارضة في بيانها أنّ قواتها قد تمكنت، خلال هذه الحملة العسكرية المباغتة، من السيطرة الكاملة على أكثر من ثلاثة عشر قرية، من بينها بلدتا أورم الصغرى وعينجارة ذاتا الأهمية الاستراتيجية الكبيرة، بالإضافة إلى الفوج 46، الذي يُعد أكبر قاعدة عسكرية لقوات النظام السوري في منطقة غرب حلب.
كما أفاد البيان الصادر عن فصائل المعارضة بمقتل ما يزيد على أربعين جنديًا من جنود قوات النظام والميليشيات المتحالفة معه، وذلك خلال الاشتباكات والمعارك التي دارت رحاها في سياق هذا الهجوم. يشار إلى أن فصائل المعارضة المسلحة تسيطر منذ سنوات عديدة على مناطق شاسعة في شمال غرب البلاد، وتعدّ هيئة تحرير الشام أبرز هذه الفصائل وأكثرها نفوذًا.
ولعلّ الأمر الجدير بالانتباه والاهتمام ليس في الهجوم نفسه، على الرغم من التبريرات التي ساقتها هيئة تحرير الشام لتبرير هذا التحرك العسكري، بل فيما ورد في بيان المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي كشف عن قيام طائرات النظام السوري بشن أكثر من ثلاثين غارة جوية مكثفة، استهدفت مواقع مدنية وعسكرية متفرقة في منطقة "بوتين-أردوغان" المتفق عليها.
وبحسب الخارطة المعقّدة للتحالفات المتشابكة في سوريا، فإن النظام السوري يشكّل حلفًا وثيقًا ومتينًا مع النفوذ الروسي المتنامي، بل إنه بات على أعتاب التقارب مع أنقرة، وذلك بمساع وجهود حثيثة تبذلها روسيا لتقريب وجهات النظر بين الطرفين. فما الذي يجري على وجه التحديد في الأراضي السورية؟ وما هو الدافع وراء هذا التوقيت تحديدًا؟
يثير هجوم المعارضة السورية المباغت، وتوقيته المحسوب، وسرعة تحركها اللافتة أمام قوات النظام تساؤلات عديدة وعلامات استفهام كبيرة، لا سيما وأن ذلك يأتي في أعقاب إعلان كل من إسرائيل وحزب الله عن موافقتهما المبدئية على بنود المفاوضات التي طرحتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بهدف وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب.
وفي هذا السياق، سعى البعض إلى ربط إطلاق هيئة تحرير الشام معركتها العسكرية الأخيرة لتوسيع مناطق نفوذها وسيطرتها بـ"اغتنام فرصة الضعف" الذي تعيشه الجماعة اللبنانية في هذه المرحلة الحرجة. كما يستفيد الهجوم بشكل كبير من حالة الغموض التي تكتنف مسار العلاقة بين كل من تركيا وروسيا من جهة، وتركيا والنظام السوري من جهة أخرى.
إذ تشهد الساحة السورية في الوقت الراهن "عودة إلى المربع الأول"، أو إلى ما كانت عليه الأوضاع المضطربة منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، وبعد أن تحولت إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية ومسرحًا لتنازع النفوذ، وذلك بالتزامن مع حالة "الترهل" التي أصابت النظام السوري. لقد رسمت المعركة الدائرة في سوريا "ستاتيكو" سيطر على المشهد العام لأكثر من أعوام، ويتمثل في الحلف الوطيد الذي أُرسيت دعائمه بين النظام السوري والجمهورية الإسلامية في إيران، وحزب الله اللبناني.
كما كان للتدخل التركي منذ بداية الحراك الشعبي في سوريا نفوذ قوي ومؤثر، وذلك من خلال سعي أنقرة الدؤوب لبناء "منطقة عازلة" في الشمال السوري، عبر دعم وتمويل مجموعات مسلحة مختلفة؛ بهدف إبعاد خطر التواجد الكردي عن أراضيها.
ولم تتوقف التدخلات على الأراضي السورية عند اللاعبين الإقليميين فحسب، بل تحت ذريعة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، شكّلت الولايات المتحدة ما يُعرف بقوات التحالف الدولي. وتتمتع الولايات المتحدة بحضور عسكري كبير وملموس في سوريا، حيث تقود التحالف الدولي ضدّ الإرهاب، وتسيطر بشكل كامل على المجال الجوي في منطقة شرق الفرات، التي تُعتبر منطقة عمليات حيوية بالنسبة لها.
وبغض النظر عمّا إذا كان الهدف المعلن هو مكافحة الإرهاب، فإنّ الأمر المؤكد هو أن لواشنطن مصالح جيوسياسية واضحة في المنطقة، لا سيما من خلال بسط نفوذها وهيمنتها على أكبر حقول النفط الغنية في محافظتي دير الزور والحسكة، وذلك عبر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة بشكل كامل من الولايات المتحدة الأميركية.
ولا يقتصر الحضور العسكري والسياسي في سوريا على الولايات المتحدة فحسب، بل هناك لاعب رئيسي آخر هو روسيا، التي نشطت عسكريًا بشكل ملحوظ منذ عام 2015 في الدفاع عن النظام السوري وحمايته من السقوط. وترسم روسيا هناك مصالح إستراتيجية طويلة الأمد ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحضورها القوي في البحر الأبيض المتوسط عبر قاعدة طرطوس البحرية، وجويًا عبر قاعدة حميميم الجوية السورية.
وقد اعتمد الرئيس السوري بشار الأسد بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023 سياسة "النأي بالنفس"، ساعيًا لتحييد نفسه عن الأحداث والتطورات المتسارعة في قطاع غزة، وموجهًا بذلك "صفعة" قوية إلى المحور الموالي لإيران بعدم فتح جبهة الجولان، على الرغم من الغارات الجوية المستمرة التي تشنها إسرائيل في العمق السوري، والتي طالت في بعض الأحيان قادة عسكريين ودبلوماسيين إيرانيين بارزين.
ولم يأخذ الأسد بشعار "وحدة الساحات" الذي ترفعه بعض الفصائل، بل اكتفى باللعب على منطق الإدانات الكلامية، دون أن تحرّك قواته العسكرية ساكنًا لردع العدوان الإسرائيلي المتواصل الذي يطال حلفاءه على الأراضي السورية.
ويدرك الكثيرون أن قرار الأسد بالوقوف موقف المتفرج يعود في حقيقة الأمر إلى الضغوط الروسية الهائلة، التي ترى أن الصراع الدائر في المنطقة يجب ألا يطال مصالحها الحيوية. بل ذهبت روسيا أبعد من ذلك في حساباتها، معتبرةً أن إضعاف النفوذ الإيراني المتزايد في سوريا يصبّ حتمًا في تعزيز مكانتها ونفوذها. خصوصًا أنه لا يحتاج المرء إلى جهد كبير ليدرك حجم التضارب في المصالح بين إيران وروسيا، وهو تضارب تُرجم ميدانيًا على أرض الواقع بين الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد شقيق بشار الأسد والموالي لإيران، والفرقة الخامسة التابعة للنظام والمؤيدة لروسيا.
وتشهد الساحة السورية "خربطات" واضحة على صعيد إعادة تركيب الصداقات وتشكيل التحالفات الجديدة، تمثّلت في امتعاض اللاعبين الإقليميين والدوليين من الحديث المتزايد مؤخرًا عن الدور التركي المحتمل في تقريب وجهات النظر بين قوات سوريا الديمقراطية والنظام السوري، لا سيما بعد شعور تلك القوات بأنّ خطر وجودها بات على المحك مع اقتراب موعد استلام الرئيس المنتخب دونالد ترامب سلطاته رسميًا، والذي عبّر في أكثر من مناسبة عن ضرورة انسحاب جيش بلاده من المنطقة برمتها.
كما أعطت "الزكزكات" التركية الروسية الساحة السورية بُعدًا إقليميًا أوسع، من خلال ما ذكرته التقارير الاستخباراتية عن دور محتمل للجيش الأوكراني في الهجوم الأخير الذي شنّته هيئة تحرير الشام.
فقد أكدت هذه التقارير أن السعي جارٍ على قدم وساق لزعزعة مصالح روسيا في مختلف أنحاء العالم، ولهذا السبب دخلت أوكرانيا بكل ثقلها في ساحات التواجد الروسي، وعلى رأسها الساحة السورية الملتهبة.
لا شيء مستبعدًا في ظل الأوضاع الراهنة، ما دامت سوريا لا تزال ساحة لتوجيه الرسائل وميدانًا مشتعلًا للحروب بالوكالة. وهكذا يجب أن تبقى الصورة النمطية السائدة بالنسبة إلى جميع اللاعبين المتدخلين. ولهذا سُجل امتعاض أميركي واضح من حركة النزوح الكثيفة للاجئين السوريين المقيمين في لبنان إلى بلادهم مع بداية الحرب الأخيرة في لبنان.
واللافت للنظر قيام إسرائيل بشن غارات جوية على المعابر الحدودية بين لبنان وسوريا، بذريعة قطع الإمدادات عن حزب الله، ولكن الهدف الواضح والأساسي كان عرقلة حركة السوريين العائدين من لبنان.
وعلى الرغم من كافة السيناريوهات المحتملة المطروحة للنقاش، يبقى السؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل سيتحول هذا الهجوم الأخير إلى تهديد جدي للنظام السوري ووجوده، مع ما يترتب على ذلك من تأثيرات سلبية على مصالح روسيا؟ أم أنه قابل للانحسار والاحتواء ما دامت الرسائل المطلوبة قد وصلت إلى النظام والقيادة الروسية؟ وما عليهما سوى التحرك العاجل لتنفيذ ما طرحه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن دور روسيا في سوريا، والذي يهدف بالأساس إلى تحجيم الوجود الإيراني المتنامي وقطع الإمدادات العسكرية المتدفقة من سوريا إلى حزب الله.